◄يقولون إنّ الزواج سترة للبنت. ولكنه في الحقيقة سترة للرجل أكثر. والرجل بدون زواج ضائع، والرجل بدون زوجة ناقص. وحين يموت الزوج يستمر البيت قائماً؛ تظل الزوجة ويظل الأولاد من حولها ثمّ يتفرقون ولكنهم يروحون ويجيئون، ولكن إذا ماتت الزوجة فإنّ البيت ينهار، والزوج وحده لا يستطيع أن يدير بيتاً ولا يستطيع أن يعمّر سكناً. ينطفئ البيت ويتفرّق الأبناء. وهذا هو ما جاء ذكره بالقرآن الكريم تحديداً ونصاً: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (الرّوم/ 21). إذن الزوجة هي السكن، والزوج يسكن لدى الزوجة. إذن الزوج هو ساكن وليس صاحب السكن حتى وإن كان يمتلكه. في الحقيقة هو اشتراه أو استأجره بماله ومسجل باسمه ولكنه مجرد جدران وسقف. السكن شيء أبعد وأعمق من هذا؛ السكن معنى؛ السكن هو سكينة النفس وطمأنينتها واستقرارها؛ السكن هو الحماية والأمن والسلام والراحة والظل والارتواء والشبع والسرور؛ السكن قيمة معنوية وليس قيمة مادية. وإذا ذهبت الزوجة ذهب السكن حتى وإن كان الزوج يعيش في قصر. وهو سكن ليس مجانياً؛ يجب أن يدفع الزوج؛ ولأنّ السكن قيمة معنوية فإنّ الزوج يجب أن يدفع فيه أشياء معنوية، وهو أن يتبادل المودة والرحمة مع الزوجة. فهذا السكن يقام على المودة والرحمة؛ فالمودة والرحمة هما الأساس والهيكل والمحتوى والهواء، وبغياب المودة والرحمة ينهار السكن؛ فلماذا جعلت الزوجة هي السكن؟
الإجابة تأتي من نفس الآية الكريمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) تقول: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) انتبه إلى كلمة أزواجاً ولم يقل نساء؛ أي لا يتحقق إلا من علاقة زواج. لا تحقق إلا إذا تحولت المرأة إلى زوجة. إذن الأصل في الحياة أن يكون هناك زواج. رجل مؤهل لأن يكون زوجاً وامرأة مؤهلة لأن تكون زوجة. يذهب الرجل إلى المرأة لتصبح زوجته ليسكن إليها. فإذا لم تكن زوجته فإنّه من المستحيل أن تصبح سكناً حقيقياً له. ولذلك لا تصح العلاقة بين الرجل والمرأة إلا بالزواج، ولا يمكن للرجل أن ينعم بالسكن إلا من خلال الزواج.
ونكمل الآية الكريمة: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). جاء السكن سابقاً على المودة والرحمة. إذ لابدّ للإنسان أن يسكن أوّلاً، أن يختار المرأة الصالحة ويتقدم إليها ويتزوجها ليتحقق السكن. فإذا قام السكن جعلت المودة والرحمة. إذن لا يمكن أن تقوم المودة والرحمة إلا من خلال وفي إطار سكن، أي من خلال وفي وإطار زواج. والكلمات الربانية البليغة تقول: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ)، أي أنّ الله هو الذي جعل؛ أي لابدّ أن يكون. فطالما أنّه زواج فلابدّ أن يستمر على المودة والرحمة. هذا ضمان من الله لكلِّ من أراد الزواج. فإذا أردت أن تسكن فلابدّ أن تتزوج. وإذا تزوجت فلابدّ أن تنعم بالمودة والرحمة. وبالتالي تصبح الزوجة هي أصل المودة وهي أصل الرحمة؛ لأنّها التي وفرّت السكن. فلا دعامة لهذا السكن إلا بالمودة والرحمة.
وتأمل الكلمة الربّانية الدقيقة (بَيْنَكُم) لم يقل عزّ وجلّ: جعل لكم وإنما بينكم. وهي تعني أنّها مسألة تبادلية، أي تبادلها الزوج والزوجة أي أنّ المودة والرحمة لا تتحققان إلا من الطرفين. أي لا يمكن أن تكون من طرف واحد. لم يجعل الله الرجل ودوداً رحيماً وحده، ولم يجعل المرأة ودوداً رحيمة وحدها. هذا لا يكفي، إنما لابدّ من الاثنين معاً. ويتجه الرجل نحو المرأة طمعاً في السكن. ومن الذي يسكن؟ ليس الجسد، وإنما الروح، فروح الرجل تسكن إلى روح المرأة، ثمّ يطمع في المودة والرحمة؛ مودة المرأة ورحمتها، فتهبها له؛ أي أنّ المرأة تسبق الرجل في مودتها ورحمتها أي هي الأساس وهي الأصل. فإذا تلقى مودتها ورحمتها بادلها المودة والرحمة.
ومن أسماء الله الحُسنى أنّه الودود وهو الرحمن وهو الرحيم. إذن المودة والرحمة هما من بعض صفاته سبحانه وتعالى. ولذلك لا حدود لمعاني المودة والرحمة وهو شيء يفوق الحب. شيء فوق الحب بمراحل كثيرة. كالمسافة بين الأرض والسماء. كالفرق بين الثرى والثريا.
والمودة مطلوبة في السراء والرحمة مطلوبة في الضراء. وهذه هي حكمة اجتماع الكلمتين في أمر الزواج. وهذا إشارة إلى أنّ الزوجين سيواجهان صعوبات الحياة معاً. هناك أيّام سهلة وأيّام صعبة وأيّام سارة وأيام محزنة. أيام يسيرة وأيام عسيرة. المودة المطلوبة في الأيّام السهلة السارة اليسيرة، والرحمة مطلوبة في الأيّام الصعبة المحزنة والعسيرة.
والمودة هي اللين والبشاشة والمؤانسة والبساطة والتواضع والصفاء والرقة والألفة والتآلف، وإظهار الميل والرغبة والانجذاب، والتعبير عن الاشتياق؛ وفي ذلك اكتمال السرور والانشراح والبهجة والنشوى.
أما الرحمة فهي التسامح والمغفرة وسعة الصدر والتفهم والتنازل والعطف والشفقة والاحتواء والحماية والصبر وكظم الغيظ والسيطرة على الغضب والابتعاد كلية عن القسوة والعنف والعطاء بلا حدود والعطاء بدون مقابل والتحمل والسمو والرفعة والتجرد تماماً من الأنانية والتعالي والغرور والنرجسية. وهي معانٍ تعلو على المودة وتؤكد قيمة التحام الروح وقمة الترابط الأبدي الخالد.
المرأة مؤهلة بحكم تكوينها لتجسيد كلّ هذه المعاني الأصلية وبذلك فهي السكن الحقيقي، ولا تصلح للسكن إلا من كانت مؤهلة لذلك. فإذا كانت هي السكن فهي المودة والرحمة. وهي قادرة على تحريك قدرة الرجل على المودة والرحمة. فالبداية من عندها. الاستجابة من عند الرجل ليبادلها مودة بمودة ورحمة برحمة.
ويظل الزواج باقياً ومستمراً ما استمرت المودة والرحمة. ولحظة الطلاق هي لحظة الجفاف الكامل للمودة والرحمة وانتزاعها من القلوب.
وهناك قلوب كالحجر أو أشد قسوة، وهي قلوب لا تصلح أن تكون مستقراً لأي مودة ورحمة، وبالتالي فهي لا تصلح للزواج. وإذا تزوجت فهو زواج تعس ولابدّ أن ينتهي إلى الطلاق.
الزواج يحتاج إلى قلوب تفيض بالمودة والرحمة.
* أستاذ الطب النفسي
المصدر: كتاب متاعب الزواج
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق